الثّورات الخارجية وتحصين القيروان
إن انضواء إفريقية تحت راية الاسلام لم يحل
دون قيام مذاهب مختلفة وانقسام أهلها بين سنّة كانت القيروان تمثّل بأشرافها
والعرب من فرسانها رمزا لها ، وخوارج ممّن وجد لدي البربر استحسانا لمذهبهم الذي
يدعو للمساواة والعدل بين الأجناس وصرف الامامة للأفضل والأتقي. وقد وافق ذلك
تعسّف من الولاة وسوء سيرة واسترقاق للبربر الذين أعلنوا العصيان ونازلوا
القيروان، فضاقت المدينة ذرعا بهجماتهم وان صمدت أمام جحافل جنود عكاشة الخارجي
سنة 124هـ/742م. بموقعة القرن فان قبائل ورفجومة من الصفريّة قد استطاعوا دخولها
عنوة سنة 141هـ/760م وأعملوا السيف في رقاب القرشيين من أشراف العرب وساداتهم
واستباحوا دماء وحرمة نسائها وأطفالها . وكان لابد من إنقاذها،
فبادر الخليفة المنصور بإرسال
محمد ابن أشعث الخزاعي وهو أول قائد دخل القيروان للعباسين وأمره بتحصينها ليقيها
تجدّد الكوارث، فطوّقها سنة 144هـ/762م. بسور من طوب سعته عشرة أذرع هو يشتمل على
ستة أبواب:
وهي باب أبي الرّبيع جنوبا وباب عبد الله
ونافع شرقا وباب أصرم وسلم غربا وباب تونس شمالا. وكانت توجد بالقيروان آنذاك سبعة
محارس لحمايتها. ثم ان الخليفة المنصور كتب للأغلب بن سالم التميمي واليه على
افريقيّة يأمره بالعدل في الرعيّة وتحصين مدينة القيروان وخندقها وترتيب حرسها.
وان لم تمنع هذه التدابير القيروان من الكوارث اذ هاجمها سنة 154 هـ/772م جموع
البربر بقيادة أبي حاتم الاباضي فحاصروا المدينة حتى أكل أهلها دوابهم وأخرجوا
منها ، فانها قد ساعدت بدون شك عل توفير الأمن لها ووطّدت بالتالي لتمصيرها
وتبحّر عمرانها، وقد أمنت واستطاب العيش فيها. فتعدّدت وكثرت الأسواق كسوق إسماعيل
التي أحدثها سنة 71 هـ إسماعيل بن عبيد الأنصاري، والقيساريّة وسويقة المغيرة نسبة
لآل عبدا لله بن المغيرة الكوفي من كبار المحدثين الوافدين على القيروان، وسوق بني
هاشم المنسوبة الى صالح بن حاجب بن هاشم وسوق دار الامارة لقربها منها. واحتفرت
الآبار سقاية لأهلها وكان من أهمّها بئر أم عياض ومواجل الجامع التي أمر ببنائها
الخليفة هشام بن عبد الملك سنة (101-124هـ/ 723-746 م) .وأصبحت القيروان مركزا
لتجارة الرّقيق وتصدير الجواري البربريّات نحو المشرق . وقامت بها صناعة النّسيج
حيث حفظ لنا متحف بروكلين قطعة من طراز افريقية صنعت للخليفة الأموي مروان الثاني
.
وخلال ولاية آل المهلّب نعمت القيروان ردحا
من الزّمن بالأمن ، فتولى يزيد بن حاتم ( 155-170 هـ) تحسينها وتوسيع جامع عقبة بن
نافع وفي ذلك معيار على اتّساع المدينة وتوافد الناس لتعميرها، واهتمّ بتطوير
الفلاحة وإقامة المنتزهات ومنها منية الخيل التي يذكر الرّقيق في شأنها أنّه حفر
بها بئرا عذبة وجعل خيله هنالك في إسطبلات. وتوافد نحوه الشّعراء والنحّاة
والأدباء والأطباء من كامل أصقاع العالم الإسلامي ممّا زاد في إشعاع القيروان وشحذ
القرائح وخلق حركيّة فكريّة متوقّدة .
فمنذ النصف الثاني من القرن الثاني هجري/
الثامن ميلادي أخذت القيروان تعد نفسها لتصبح مقرا عربيّا هاما وافر العمران. غير
أنه ينبغي إلا تتصوّر القيروان عاصمة باذخة ذات أبّهة وجلال بل أن ذلك كان
على غاية من البساطة ويعود الى بني الأغلب (184-296هـ/800-909م)
شرف تأهيلها لتصبح إحدى أمّهات العواصم الإسلامية وتبلغ أوج حضارتها وسؤددها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق